الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

أزمة الخبز المصري بين فساد الحكم وتحيزه للأثرياء الجدد


تبرير رسمي يخفي المسؤولية عن الأزمة
أزمة نظام الحكم.. إنتاج الفساد وإعادة إنتاجه
فساد توزيع الناتج والدخل والتحيز لقاعدة ضيقة اجتماعيا
الحروب والأزمات

تعاني الغالبية الساحقة من المصريين يوميا من جراء نقص الخبز المدعم وتنفق هذه الغالبية وقتا طويلا يبدأ بعد صلاة الفجر مباشرة وقد يستمر حتى إغلاق المخابز عند الثالثة بعد الظهر.
حيث يتناوب أفراد الأسرة الواحدة الوقوف في الطوابير للحصول على 20 رغيفا في أقصى حد للفرد، وهذا الانتظار فسره الكثيرون بأنه أسلوب آخر من أساليب النظام المصري الأمنية في الأساس لإهدار طاقة وصحة الناس في طوابير جديدة ومتجددة.


فمن طوابير انتظار عبوة (جركن) المياه المتجددة كل صيف في بلد يجري فيه نهر النيل بموارده الوفيرة، إلى طوابير الازدحام أمام وسائل النقل العام والخاص، إلى تكدس المرور، إلى طوابير تبدأ من الفجر أيضا لاستخراج الشهادات اللازمة لإعادة بطاقات التموين المدعم.
وذلك حتى لا يكون لدى المصريين أي وقت للتفكير في استبداد النظام وفساده المركب المنظم الأخطبوطي، والمتداخل بين نخبة الدولة ونخبة ضيقة للغاية من كبار رجال الأعمال ممن احتكروا معظم مصادر الثروة والقروض وتهريب الأموال للخارج.


تبرير رسمي يخفي المسؤولية عن الأزمة في رأي بعض المتابعين أن أزمة رغيف الخبز ترجع إلى عجز الحكومة عن ضبط الأسواق والأسعار وأصحاب المخابز ممن يتلاعبون بالدقيق المدعم ببيعه لشركات ومحلات الحلوى والفنادق الكبرى.
وفي رأي الحكومة التي تتنكر لأية مسؤولية عليها أن الأزمة تكمن في الناس أنفسهم لأنهم يستخدمون الخبز المدعم لإطعام الطيور والمواشي، والغريب أن تستمر حكومة مبارك في هذا الزعم رغم أن تفشي مرض إنفلونزا الطيور كاد يقضي على تربية الدواجن في مختلف بيوت الريف والحضر.


كما تبين من تحقيقات وتقارير صحف مصرية حكومية ومعارضة ومستقلة في الفترة الأخيرة أن الفلاح المصري بعد الارتفاع الرهيب في أسعار الأعلاف والبرسيم والدقيق والقمح والأرز والذرة، لم يعد يطعم ماشيته سوى قش الأرز والذرة، مما يضعف صحة الحيوان نفسه.
" أزمة رغيف الخبز ترجع إلى عجز الحكومة عن ضبط الأسواق والأسعار وأصحاب المخابز ممن يتلاعبون بالدقيق المدعم ببيعه لشركات ومحلات الحلوى والفنادق الكبرى " وتزعم حكومة مبارك أيضا أن الارتفاع في الأسعار العالمية للحبوب من قمح وذرة وأرز وراء قرارها بتقليص حاد في الكميات التي تدعمها من القمح والدقيق أو الطحين مما نتج عنه توفر كميات قليلة من الطحين الموجه للخبز الأسمر المدعم ورفع الدعم عن الدقيق الفاخر.


وأنه وراء قرار الحكومة نفسها بالسماح لأصحاب المخابز البلدية العامة والخاصة ببيع شرائح من الخبز بعشرة قروش وخمسة وعشرين قرشا وحتى خمسين قرشا، حتى من منافذ البيع التابعة لوزارة الزراعة. بل إن حكومة مبارك نفسها رفعت أسعار طن الدقيق المبيع من القطاع العام إلى 3800 جنيه مصري، في حين يبيعه القطاع الخاص بـ3400 جنيه.


أزمة نظام الحكم.. إنتاج الفساد وإعادة إنتاجه
وهذا يعنى أن الأزمة هي أزمة نظام مبارك نفسه أزمة الفساد والاستبداد وهدر الموارد وأزمة اختيار سياسي يصب في خانة الانحياز التام للأغنياء والأثرياء الجدد، حيث إن نظام مبارك ومن قبله نظام السادات انتهج سياسة تستهدف خلق شريحة ضيقة اجتماعيا تحتل قمة الهرم الاجتماعي لكسب ولاء هذه الشريحة للنظام ودعم استبداده السلطوي سياسيا وحكمه الفاسد ماليا واقتصاديا وإداريا.


فقد استند حكم عبد الناصر اجتماعيا على شرائح وفئات عريضة من صغار الفلاحين والعمال والشريحة الصغرى والوسطى من الطبقة المتوسطة لدعم سياساته وتوجهاته التقدمية داخليا وخارجيا، بديلا عن التحالف السابق من الإقطاع ورأس المال التجاري قبل ثورة يوليو 1952.
لكن نظام السادات ثم مبارك انقلب على المعادلة التحالفية الاجتماعية هذه التي كفلت مستوى مشرف ا من الاستقرار الاجتماعي الاقتصادي والنفسي لغالبية المصريين، مكّن مصر ونظام السادات نفسه من خوض حرب تشرين/أكتوبر 1973 دون أزمات اجتماعية.


وجاء الانقلاب هذا بتدخل تعسفي مباشر وغير مباشر مشروع وغير مشروع وإصدار تشريعات وقوانين فاسدة لأنها صادرة عن نظام حكم فاسد، من شأنها تسويغ وخلق فرص التربح وتكوين ثروات طائلة من مصادر طفيلية أساسا ومن نهب المال العام والسمسرة والعمولات والهروب بمليارات الدولارات المنهوبة من بنوك القطاع العام للخارج.


والأكثر من ذلك هو توفير شتى سبل الحماية القانونية والأمنية والتغطية السياسية والإعلامية على جرائم وممارسات هؤلاء ضد الملاحقة القضائية أو رقابة الأجهزة المحاسبية الرسمية أو غضب الرأي العام.
وكان من تداعيات هذه السياسة المنظمة والمتعمدة سياسة خلق قاعدة اجتماعية حلقية ضيقة للغاية حول الحاكم ونظامه تحتكر موارد القوة السياسية والاقتصادية، إبعاد غالبية الشعب المصري من الحصول على حقوقه من السلطة والثروة، وتهميش متصاعد لشرائح اجتماعية عريضة وواسعة شملت الطبقات الدنيا من الفلاحين والمزارعين والعمال الزراعيين وصغار المستأجرين.


وكذلك إفقار منظم لمعظم شرائح الطبقة الوسطى، حيث عصف الغلاء الفاحش في أسعار المواد الغذائية الأساسية وفواتير الكهرباء والمياه والصرف الصحي ومختلف الرسوم على الشهادات والفواتير، بدخول ومكانة ومستوى معيشة هذه الفئات والشرائح.
وقد وصل ترتيب مصر من حيث مؤشر مدركات الفساد الصادر ضمن تقرير الفساد عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2005 إلى 77 من بين 146 دولة على مستوى العالم، ولم ينخفض إلا قليلا مع تقرير عام 2007، بينما حققت كل من سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة المرتبة 29 سابقة مصر في مكافحة الفساد، وجاءت قطر في المرتبة 38، في حين اعتُبرت إسرائيل من أفضل عشرين دولة في هذا الصدد.


وترتيب مصر في قائمة الدول الجاذبة للاستثمار بلغ 70 من مجموع 191 دولة، وأظهر الدكتور أحمد زويل من قبل أن الكونغرس أجرى دراسة مستفيضة عن أعلى عشر دول في قائمة دعم الفساد بالعالم وعدم مكافحته فكانت أربع دول عربية تحتل المراتب الأربع الأولى وبالطبع على رأسها مصر.


فساد توزيع الناتج والدخل والتحيز لقاعدة ضيقة اجتماعيا
وأزمة الخبز تتجلى أيضا وتنبع من فساد اختيار اجتماعي سياسي اقتصادي لنظام مبارك يتمثل هذه المرة في تخصيص متعمد لعوائد النمو التي تبدو في زيادة الناتج المحلي الإجمالي لصالح الأغنياء.
فمن جهة استند رئيس الوزراء ووزراء المجموعة الاقتصادية إلى الزيادة التي تحققت في السنوات الثلاث الأخيرة في نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي، للدفاع عن الحكومة بأنها تمكنت من معالجة العجز في الموازنة العامة والخلل بين النفقات والإيرادات وتخفيف عجز الميزان التجاري.


وتجاهلت حكومة مبارك أن هذه الزيادة وقتية وقصيرة الأمد ولن تستمر لعوامل خارجة أساسا عن إرادة نظام مبارك مع أنها جاءت لصالحه مثل الارتفاع الهائل في أسعار النفط عالميا وبيع شركات وبنوك مملوكة للقطاع العام.
ومثل هذا النجاح إنما يصب في خانة تحسن السياسات الكلية (الماكرو) التي يفضلها دائما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والحكومات الغربية وعلى رأسها الحكومة الأميركية، بينما السياسات على المستوى الجزئي (الميكرو) والقطاعي ألحقت ضررا بليغا بغالبية المصريين في مظاهر الفقر والإفقار والتهميش والبطالة وتدني مستوى الرعاية الصحية والصحة العامة وتدهور مستوى التغذية، إلى جانب تدهور نوعية وقيمة ومكانة التعليم مع ارتفاع نفقاته.


" اختيارات النظام المتحيزة طبقيا للأغنياء والأثرياء الجدد أدت إلى انقلاب حاد في نسب الفئات الاجتماعية من الناتج المحلي الإجمالي، حيث يعيش نحو عشرين مليون مواطن مصري في فقر مدقع " هنا يوجد مؤشر مهم وهو أن الزيادة الاسمية التي تحدث في مستوى الدخول يبتلعها التضخم والغلاء وتدهور القدرة الشرائية للجنيه المصري، مما يجعل الدخول الفعلية الآن في عام 2008 أقل من عام 1970 إذا حسب على أنه سنة أساس.
ومن جانب آخر ينمو متوسط نصيب الفرد في مصر بنسب لا تزيد في أحسن الأحوال عما بين 2 و2.5% سنويا، في حين يصل معدل الفقر البشري حوالي 33%، ومعنى ذلك أن من استفاد من الارتفاع في الناتج المحلي الإجمالي هم الأغنياء والأثرياء الجدد.


وتدل على ذلك إحصاءات صدرت عن جهات دولية موضوعية إلى حد كبير مثل تقارير التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وحتى تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى جانب التقرير السنوي للتنمية الإنسانية العربية الرصين والمدقق منذ عام 2003.
ويمكن الخلوص من هذه التقارير إلى أن ما لا يقل عن ثلث المصريين يعيشون في فقر مدقع أي من لا ينفق مقدارا يعادل دولارا واحدا في اليوم، وأن نحو 70 إلى 75% من المصريين يعيشون في حالة الفقر حيث لا ينفق الفرد ما يساوي دولارين يوميا أي 11 جنيها تقريبا.


وأدت اختيارات النظام المتحيزة طبقيا للأغنياء والأثرياء الجدد كذلك إلى انقلاب حاد في نسب الفئات الاجتماعية من الناتج المحلي الإجمالي، حيث أشارت تقارير دولية أخيرة إلى أن نحو عشرين مليون مواطن مصري يعيشون في فقر مدقع أي حوالي الثلث، وأن نصيب أغنى 10% من السكان بلغ 29.5% من هذا الناتج، ولكن هذا الرقم مأخوذ أساسا من واقع إحصاءات الحكومة المصرية الرسمية عام 1998.


هذا مع أنه يقلل إلى حد كبير من نصيب هؤلاء الذي وصل في تقارير أخرى إلى 40% تقريبا و55% لأغنى 20%، ومع أنه تقدير قديم لا يدخل في الاعتبار ما حدث من تركز شديد للثروة في يد قلة محدودة للغاية من قمة الهرم الاجتماعي الذي حدث من استفادة أعضاء هذه القلة من عمليات بيع أراضي الدولة والاتجار بها ونهب قروض البنوك وتهريبها للخارج ومن سياسات الخصخصة وبيع شركات وبنوك القطاع العام إلى جانب أنشطة غير مشروعة مثل تجارة المخدرات والأعضاء البشرية والسلاح والدعارة وغيرها.
وربما الأكثر خطورة هنا أن من بين هؤلاء الأغنياء حفنة قليلة للغاية تحصل على ثروات ودخول خيالية، مما يعنى أن مصر عادت إلى مجتمع النصف في المائة قبل ثورة يوليو 1952، ومن حيث النصيب من الدخل نلاحظ أن أغنى 20% من السكان حصلوا على 43.6% من مجموع الدخل الوطني.


وكان لابد من حساب نصيب القلة المحظوظة من بين هؤلاء العشرة وهي لا تزيد عن 2% من مجموع السكان، بينما حصل أفقر 20% في مصر على نحو 8.6% من الدخل وفي رقم آخر أدق 5% فقط.


الحروب والأزمات
كان النظام يحتج لرفع الأسعار في السبعينيات بتكلفة الحروب، فلما انتهت الحرب مع إسرائيل كان منطقيا توفير النفقات الناتجة عن تخفيض الاستعداد للحرب وإعادة توجيهها لصالح التنمية البشرية الشاملة.
" كان النظام يحتج لرفع الأسعار في السبعينيات بتكلفة الحروب مع إسرائيل، فلما انتهت كان منطقيا توفير النفقات, لكن الأسعار استمرت لهيبا وعلى رأسها أسعار الخبز، مما يعني أن جذر الأزمة في فساد منظم يدعمه تسلط واستبداد سياسي وأمني " لكن الأسعار استمرت لهيبا وعلى رأسها أسعار الخبز، مما يعني أن جذر الأزمة في فساد منظم يدعمه تسلط واستبداد سياسي وأمني تقوده نخبة متحالفة من كبار المستولين على أراضي الدولة وممن حظوا بصلات النفوذ والمصاهرة والولاء الزبوني وتداخل السياسة بعالم الأعمال الخاص السري والعلني بين كبار مسؤولي الحزب الحاكم وخصوصا أمانة السياسات بالحزب التي اخترعت خصيصا لجمال مبارك.
كما أن هذه الأمانة صارت تضم نخبة محدودة من كبار محتكري عمليات الاستيراد والتصدير والنقل التجاري والشحن البحري وناهبي المال العام وعلى رأسهم من يحتكرون استيراد وإنتاج وتوزيع تحديد أسعار سلع إستراتيجية مثل المواد الغذائية والأدوية والإسمنت وحديد التسليح.


كما تعمق الدولة الأزمة من خلال رفع أسعار الأسمدة والدقيق والقمح مع زيادات متواصلة في أسعار الأرز الذي وصل أربعة جنيهات للكيلو وكان لا يزيد عن جنيهين مع بداية عام 2007، وأسعار الذرة والمكرونة، مما يغلق معظم الأبواب أمام غالبية المصريين وهم فقراء في الحصول على مورد أرخص للطعام بديل للقمح.
ولعل ما يفسر الأمر أن نظاما حاكما مثل نظام مبارك يعجز بكل طاقاته الأمنية والإدارية عن ضبط إشارات المرور وانفلات الشارع لحساب الأمن السياسي، أفضى به الأمر إلى عجز عن توفير رغيف الخبز المدعم، فهو نظام يدير موارد البلاد لحساب تحالف ضيق طبقيا لا يزيد عن 2% من مجموع 77 مليون مصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق